من هيمنة المصطلح القرآني في قصة موسى عليه السلام
بقلم الأستاذ هشام طلبة
الباحث في الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة
* كسنة الله في الطغاة الجبارين وما هي من الظالمين ببعيد. هلك فرعون في مسطح مائي سماه القرآن الكريم " اليم ". ولقد لفت نظرنا الباحث الإسلامي "محمد عوض " إلى أن القرآن الكريم لا يذكر الانفلاق إلا للبحر ولم يذكره أبداً لليم. وحين ذكر غرق فرعون لم يذكره إلا في اليم - ورد أربع مرات – ولم يذكره للبحر أبدًا. كما في قوله تعالى:
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } [ البقرة: 50 ].
{ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى } [ طه: 77 ].
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء: 63 ].
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } [ الأعراف: 136 ].
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } [ طه: 78 ].
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } [ القصص: 40].
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الذاريات: 40 ].
* والقرآن الكريم دقيق في لفظه، فالكلمة فيه ينتظرها مكانها. بل الحرف الواحد لا يمكن أن ينـزع أو يستبدل بآخر. وهذا من إحكام هذا الكتاب العظيم المهيمن(1) على سائر الكتب السابقة: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ...} [ المائدة: 48 ].
* ومن هيمنته تصحيح الأخطاء الواردة في الكتب السابقة التي استحفظ عليها أصحابها فلم يحفظوها إلى أن تولى الله حفظ الكتاب الخاتم. مصداق ذلك قوله تعالى دائمًا عقب ذكر القصص: { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ.. } [ مريم: 34 ]. { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ.. } [ الكهف: 13 ].
* ومن هيمنته كذلك تفصيل ما ورد في الكتب السابقة مجملًا: { وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس: 37 ].
* وقصة موسى عليه السلام من أكثر القصص ذكراً في القرآن الكريم. وقد صحح القرآن العديد من الأخطاء التي طالتها في التوراة الحالية، كاستراحة الله – تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا – في اليوم السابع للخلق. وكلامه لموسى متجسدًا – حاشاه – في عليقة في شجرة. وكنسبة البرص لموسى في معجزة تحول يده للبياض وغير ذلك.
* كما فصَّل القرآن العديد مما ورد مجملاً في تلك القصة، كذكره تنجيس اليهود لأيام السبت المقدسة عندهم في التوراة: " نجستم سبوتي.. " ثم تفصيل ذلك في القرآن الكريم بذكره قصة أصحاب السبت.
* من هذا التفصيل أيضاً موضوع مقالنا. وهو تفصيل القرآن وتفريقه بين اليم والبحر. ولم يفرق بينهما في التوراة الحالية. وورد لكل الحالات كلمة " بحر " سواء في الانفلاق أو غرق فرعون، ذلك أن أي مسطح مائي في اللغة العبرية يطلق عليه كلمة " يم ". أما العربية ومن قبلها المصرية القديمة ( لغة فرعون واللغة التي نشأ عليها موسى وتعلمها قومه من مُضِيفِيهم المصريين ) فقد فرقتا بينهما.
* وحتى نفرق بين هذين المصطلحين ونعرف السر في ورودهما هكذا في القرآن الكريم لجأنا لخمسة طرق:
1 – علم التفسير.
2 – التحليل اللغوي.
3 – البحث في معنى الكلمة أعجمية الأصل.
4 – كتب أهل الكتاب ومخطوطاتهم(2).
5 – العلوم التجريبية ( الجيولوجيا تحديداً ).
أولًا: تفاسير القرآن:
خاصة لقوله تعالى لموسى حين أراد أن يضرب البحر مرة أخرى بعصاه ليعود إلى حالته: { وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [ الدخان: 24 ]، فقد اختلف المفسرون فيها كثيراً، حيث رأى أغلب المفسرين ( ابن كثير والألوسي والشوكاني والرازي وغيرهم ) أن المقصود بكلمة { رَهْوًا } هو ساكنًا أو يابسًا. إلا أنَّ ابن الجوزي في زاد المسير قال: " الرَّهْو ": مشيٌ في سُكون. ورغم ذلك عاد وقال إن المراد من قوله تعالى: { وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا }. أي: كما هو طريقًا يابساً.
ثانياً: المعنى اللغوي لكلمة " رهو ":
ما ذكره ابن الجوزي عن معنى الرهو: المشي في سكون. ثم لا يستفيد من ذلك في تفسيره للآية دفعني لدراسة قول معاجم اللغة في هذه الكلمة.
وقد أدهشني أن ابن منظور ذكر في " لسان العرب " عن معنى " رهوًا ": أنَّ من قال ساكنًا للبحر فليس بشيء. ثم أفرد لهذه الكلمة " رها " حوالي ثلاث صفحات كبار. دار أغلبها في معاني السير خاصةً السير المتتابع في رفق، حيث تقول العرب: جاءت الخيل رهواً، أي: تحركت الخيل حركة متتابعة سهلة خفيفة. ( ولم يذكر له معنى السكون إلا مرة واحدة ) لمثل ذلك ذهب الزبيدي في كتابه " تاج العروس "، حيث قال: الرهو في السير اللين مع دوام. ثم ذكر قول الشاعر:
يمشين رهوًا فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تتكل
* ثم ذكر كلاهما ( ابن منظور والزبيدي ) معنًى للرهو عجيب وهو: مُسْتَنْقَع الماء أو المنخفض الذي يجتمع فيه الماء. أو الجَوْبَةُ تكون في مَحَلَّةِ القَوْمِ يسيلُ إِليها المَطَر. وهو ما ذكره كذلك الرازي في مختار الصِّحاح وابن سِيده في المحكم.
* يفهم مما ذكرناه أن الله لم يأمر موسى أن يترك البحر ( جبلا المياه ) ساكنًا. بل يتركه ( أو يترك جبلي الماء وأمواجهما ) تتحرك حركة لينة بطيئة متتابعة. أو يتركه في طور "المستنقع" قبل أن يرجع لحالة البحر الكامل.
ثالثًا: عجمية الكلمة " يم ":
من إعجاز القرآن أن يضع الكلمة أعجمية الأصل في الموضع الذي يفسر معناها في اللغة الأصلية، فـ " داود " تعني في العبرية " ذا الأيد " كما أورد القرآن. و" إسحق " تعني الذي يشتق اسمه من الضحك { وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ .. } [ هود: 71 ]. [ هذا باب من أبواب الإعجاز من أجمل ما كتب فيه كتاب " من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن " للأستاذ / رؤوف أبو سعدة ](3).
* وصاحب قصة الغرق هنا هو فرعون وجنوده – وهم مصريون -، إذًا فاللغة التي نبحث فيها عن معنى كلمة " يم " هي اللغة المصرية القديمة ( اللغة الديموطيقية ) التي تعني فيها البحيرة أو المستنقع.
* وقد ذكر الموقع الحكومي المصري (
www.fayoum.gov.eg) باب: " أصل تسمية الفيوم " أن أصل كلمة " الفيوم " في المصرية القديمة هو " پِ – يُمّ " (pe-ym ).
" پِ ": هي أداة التعريف المصرية. و" يُمّ " تعني البحيرة التي تحورت إلى فيوم وأضيفت إليها أداة التعريف العربية ( أل ) إضافة إلى أداة التعريف المصرية فأصبحت " الفيوم ". والمعروف أن الفيوم بها بحيرة قارون الشهيرة.
- هنا قد يسأل سائل. إذا كان اليم يعني البحيرة باختلاف البحر. وقد ذكرت من قبل أن القرآن لم يذكر الانفلاق إلا للبحر وغرق فرعون وجنوده كان في اليم. فهل معنى ذلك أن المسطح المائي الذي غرق فيه فرعون لم يكن هو الذي انفلق ؟ وهل كانت هذه البحيرة مثلًا مجاورة للبحر ؟
تتمة البحث تجيب عن السؤال.
رابعًا: كتب أهل الكتاب المخفية:
لا نتكلم عن كتب أهل الكتاب متبعين، فما تناقض منه مع القرآن فهو خطأ وما توافق معه فهو صحيح. وما لا يتناقض لا نصدقه ولا نكذبه ولكنه يُشكِّل قرينة في سلسلة قرائن نسوقها لفهم الآيات. كما أن ما سنذكره لا يوجد في كتبهم المشهورة كالتوراة الحالية. بل في كتب مخفية وغير مشهورة فأنى لمحمد صلى الله عليه وسلم علمها ؟!
ذكر في العديد من كتب الربيين القدماء والتلمود أن جياد المصريين قد اندفعت إلى المياه بمن على ظهورها من المصريين. وأن العجلات الحربية كانت تجرجر راكبيها وتدفعهم إلى البحر. وكان ( الله ) قد ألقاهم كما تلقي ربة المنزل بالعدس في الهواء لكي تنقيه من الشوائب. فصار عاليهم سافلهم وسافلهم عاليهم.. فكان يطاح بالجواد وراكبه على ظهره فيطير في الهواء ثم يهوي الاثنان إلى قاع البحر(4).
"..The Chariots, though fire from heaven had consumed their wheels, dragged the men and the beasts into the water.. the rider and his beast were whisked high up in the air, and then the two together.. were hurled to the bottom of the sea"(5).
* أليس هذا هو مصداق قوله تعالى في القرآن الكريم مرتين: { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } [ القصص:40. الذاريات 40 ] ؟! والنبذ هو الطرح والإلقاء كما هو معلوم في التفاسير والمعاجم.
* إذًا يفهم كذلك من كتب اليهود النادرة والمخفية أن فرعون وجنوده لم ينطبق عليهم البحر فوراً. بل كان تراجع المياه بطيئًا مما جعل هناك فرصة لخوض الجياد في المياه. وجرجرة العجلات الحربية التي نزلت في الجزء اليابس فعلًا إلا أنها سقطت ( ألقيت ) براكبيها في أماكن أشد انخفاضًا كانت قد ملئت بالماء فعلًا.
خامسًا: العلوم التجريبية:
من الإعجاز الجيولوجي في هذه القصة القرآنية دقة وصف انفلاق البحر، فقال: { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء:63 ]. [ ولم يقل مثل التوراة الحالية أن الماء بعد الانفلاق كان بمثابة "سُورَيْن" عن يمينهم وعن شمالهم. وأن الماء قد تراجع للوراء نتيجة ريح شرقية !! لو كان هذا ما حدث لصارت هناك كارثة بيئية ( فيضانات ) إقليمية إن لم تكن عالمية ! نتيجة تراجع الماء هذا ولم يتحدث عنه أي كتاب ].
أي أن القرآن يقول بإزاحة رأسية للمياه لا أفقية. وهذا ما يعرف في الجيولوجيا بالمد البحري ( تسونامي ) مع الفارق الكبير في الحجم. بل لقد حدث في أواسط القرن العشرين مدًّا بحريًّا في آلاسكا وصل إلى 520مترًا !! نتيجة انهيار جزئي لجبل في المحيط. وهذا ما يعرف في الجيولوجيا بالمد البحري الخارق Mega Tsunami . وقد كان القرآن بذلك أول كتاب يصف موجًا كالجبال كما في قوله تعالى: { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ.. } [ هود: 42].
• إذًا حين رفع موسى عصاه وهوى بها على البحر فكأنما ألقى فيه جبلًا فحدثت إزاحة خارقة لمياه البحر. ولما كان هذا البحر خليجاً وليس بحراً مفتوحاً تولد جبل من المياه عن يمين الضربة وجبل من المياه عن شمالها { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }.
• ونحن هنا لا نفسر المعجزة تفسيراً علمياً. ولكن تقريب الصورة للأذهان لا ينتقص من حقيقة الأشياء.. فالمعجزات كما يقال محارة الأفهام وليست محالة الأفهام كقول الشاعر أبي تمام:
فَاللَهُ قَد ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنورِهِ مَثَلاً مِنَ المِشكاةِ وَالنِبراسِ
• كذلك من الإعجاز الجيولوجي ذكر إلقاء فرعون وجنوده ( النبذ ) في اليم ( المستنقع ) وهذا لا يتأتى إلا إذا كان قاع البحر غير مستوٍ وهذا ما نعرفه الآن ولم يتيسر للإنسان وقت نزول القرآن الكريم.
* أكثر ما يهمنا هنا أن نعلم أنه لو كان ما حدث لفرعون وجنوده تراجع فوري لجبليِّ الماء فسيكون أقرب ما يكون إلى التعرض لمدَّين بَحْريين خارقين Two mega tsunamis من اليمن والشمال. يصل ارتفاع أمواج الواحد منهما إلى أكثر من خمسمائة مترًا { كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }.
وإذا كان المد البحري الذي ضرب جزيرة سومطرة وشرق آسيا في ديسمبر 2004م والذي ولَّد أمواجًا لم تتعد العشرين مترًا قد دمر خرسانة المباني. فما بالنا بما تعدى الخمسمائة مترًا؟! هل كان ذلك سيبقي من جسد فرعون ومن معه شيئًا ؟ لقد قال تعالى في موضع آخر عن فرعون: { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.. } [ يونس: 92 ].
إذًا لم يحدث انطباق فوري لِجَبَليِّ الماء على فرعون وجنوده وإلا لتمزق جسده مع أجسادهم.
الخلاصة:
إذًا ثبت من التفاسير والمعاجم اللغوية وعلم أصول الكلمات Etimology ومن كتب اليهود النادرة ومن الجيولوجيا أن هناك فرقًا واضحًا بين البحر واليم، إذ أن اليم هو البحيرة أو المستنقع. وهو طور أو حال من أحوال البحر ( وليس منفصلًا عنه ) غرق فيه فرعون وجنوده تحقيراً لهم. وكأن الله عز وجل يقول لفرعون أنت أحقر من أن تغرق في بحر بل ستغرق في مستنقع. ثم حدث تراجعاً بطيئاً للمياه عاد بها في نهاية الأمر إلى حالتها الأولى. ومن ثم حمل جسد فرعون رويدًا رويدًا إلى الشاطئ سليماً ليكون لمن خلفه آية نراه حتى الآن في المتحف المصري. وهذا من إعجاز القرآن كذلك إذ لم يُذكر هذا في أي كتاب سواه. والله من وراء القصد