(( سبحان ربي الأعلى )) :وأما قوله: «رَبِّي الأعلى» دون أن يقولَ رَبِّيَ العظيم؛ لأن ذِكْرَ علوِ الله هنا أنسب من ذكر العظمة، لأن الإنسان الآن أنزل ما يكون، لذا كان من المناسب أن يُثني على الله بالعلو، وانظر إلى الحكمة والمناسبة في هذه الأمور، كيف كان الصَّحابةُ في السفر إذا علوا شيئاً كَبَّروا، وإذا هبطوا وادياً سَبَّحوا ؛ لأن الإنسان إذا علا واُرتفع قد يتعاظم في نفسه ويتكبَّر ويعلو، فمناسبٌ أن يقول: «الله أكبر» لِيُذكِّرَ نفسَه بكبرياء الله عزَّ وجلَّ، أما إذا نزل فإن النزول نقص، فكان ذِكْرُ التسبيح أَولى؛ لتنزيه الله عزَّ وجلَّ عن النقص الذي كان فيه الآن، فكان من المناسب أن يُذَكِّرَ الإنسانُ نفسَه بِمَنْ هو أعلى منها.ونظير هذا من بعض الوجوه: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى شيئاً يعجبه من الدنيا يقول: «لبيكَ، إنَّ العيشَ عيشُ الآخرة» لأن الإنسان إذا رأى ما يعجبُه مِن الدُّنيا رُبَّما يلتفت إليه فيُعرض عن الله، فيقول: «لبيك» اُستجابةً لله عزَّ وجلَّ، ثم يوطِّنُ نفسه فيقول: «إنَّ العيشَ عيشُ الآخرة» فهذا العيش الذي يعجبك عيش زائل، والعيش حقيقة هو عيش الآخرة، ولهذا كان من السُّنَّة إذا رأى الإنسانُ ما يعجبُه في الدُّنيا أن يقول: «لبيك، إن العيشَ عيشُ الآخرة». وما المراد بالعلو في قول: «سبحانَ ربِّيَ الأعلى» أعلوُّ المكان، أم علوُّ الصفة؟
الجواب: يشمَلُ الأمرين جميعاً، وهذا متفق عليه في فِطَرِ الناس؛ إلا مَن اُجتالتْهُ الشياطين عن فطرته، فإن علوَّ الله عزَّ وجلَّ علو ذات، أمرٌ مفطور عليه الخلق، فلو أنك قلت للعامي: ماذا تريد بقولك «سبحان رَبِّيَ الأعلى»؟ لقال: أريد أنه فوق كلِّ شيءٍ، ولا يدري عن علوِّ الصِّفة، ومع ذلك فقد أنكر علوه في ذاته مَنْ أنكر ممن يستقبلون قبلتنا، ولا شَكَّ أنهم خالفوا الكتابَ والسُّنَّةَ وإجماعَ السَّلفِ والعقلَ والفطرةَ، ولو رجعوا إلى فِطَرهم لعلموا أن الإيمان بعلوِّ الله تعالى بذاته أمرٌ لا بُدَّ منه، ولا بُدَّ من الإقرار به، فهم عندما يصيبهم شيءٌ تنصرفُ قلوبُهم إلى السَّماء إلى العلوِّ. وهم يقفون بعَرَفَة يدعون الله، فهل يرفعون أيديهم، أم ينزلوها إلى الأرض؟
ومن العجيب أنهم يرفعون أيديهم، ويدَّعون أنَّ الله في الأرض! نسأل الله العافية.
المهم أننا نشعر في قولنا: «سُبحانَ رَبِّيَ الأعلى» أنَّ اللَّهَ عَلِيٌّ في ذاته، وعَلِيٌّ في صفاته، بل هو أعلى مِنْ كلِّ شيء، والله تعالى وَصَفَ نفسَه أحياناً بالأعلى، وأحياناً بالعليِّ، لأن الوصفين ثابتان له: العلو، وكونه أعلى، كما أنه يوصف بأنه الكبير وأنه الأكبر، وبالعليم وبالأعلم. وصيغة التفضيل في هذه الأشياء على بابها، وليست بمعنى اُسم الفاعل كما يدَّعيه بعض العلماء.
أذكار السجود
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارة هذا ، وتارة هذا:
1- (أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني) ((سبحان ربي الأعلى (ثلاث مرات))). و((كان - أحياناً- يكررها أكثر من ذلك )) . وبالغ في تكرارها مرة في صلاة الليل حتى كان سجوده قريباً من [145] قيامه ، وكان قرأ فيه ثلاثة سور من الطوال: ﴿البقرة﴾ و ﴿النساء﴾ و ﴿آل عمران﴾، يتخللها دعاءٌ واستغفار؛ كما سبق في ((صلاة الليل)).
2- (صحيح) ((سبحان ربي الأعلى وبحمده (ثلاثاً) )).
3- (مسلم وأبو عوانة) ((سبوح قدّوس رب الملائكة والروح)).
4- (البخاري ومسلم) ((سبحانك اللهم ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي))، وكان يكثر منه في ركوعه وسجوده، يتأول القرآن.
5-(مسلم وأبو عوانة) ((اللهم! لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، [وأنت ربي]، سجد وجهي للذي خلقه وصوّره، [فأحسن صوره]، وشق سمعه وبصره، [فـ] تبارك الله أحسن الخالقين)).
6-(مسلم وأبو عوانة)((اللهم! اغفر لي ذنبي كله، ودقه وجلّه، وأوله وآخره،وعلانيته وسره)) .
7-( ابن نصر والبزار والحاكم وصححه ورده الذهبي، لكن له شواهد مذكورة في الأصل) ((سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء بنعمتك عليّ، هذي يدي وما جنيتُ على نفسي)).
8- (أبو داود والنسائي بسند صحيح) ((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)).، وهذا [146] وما بعده كان يقوله في صلاة الليل.
9-( مسلم وأبو عوانة) ((سبحانك [اللهم!] وبحمدك، لا إله إلا أنت)).
10- (ابن شيبة والنسائي، وصححه الحاكم) ((اللهم! اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت)).
11-( مسلم وأبو عوانة) ((اللهم! اجعل في قلبي نوراً، [وفي لساني نوراً]، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من تحتي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل خلفي نوراً، [واجعل في نفسي نوراً]،وأعظِم لي نوراً)).
12-( مسلم وأبو عوانة) (([اللهم!] [إني] أعوذ برضاك من سخطك، و[أعوذ] بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)).
(( ربي اغفر لي )) : أي : انك تسأل الله سبحانه وتعلى أن يغفر لك الذنوب كلها الصغائر والكبائر . والمغفرة هي : ستر الذنب والعفو عنه ، مأخوذة من المغفر الذي يكون على رأس الإنسان عند الحرب يتقي به السهام . وأما (( ارحمني )) : فهو طلب رحمة الله عز وجل التي بها حصول المطلوب ، وبالمغفرة زوال المرهوب ، هذا إذا جمع بينهما . أما إذا فرقت المغفرة عن الرحمة فإن كل واحدة منهما تشمل الأخرى ، وله نظائر في اللغة العربية :فالفقير والمسكين إذا ذكرا جميعا صار لكل واحد منهما معنى ، وإذا أفرد أحدهما عن الآخر صار معناهما واحداً ، أي : إذا اجتمعا افترقا ،وإذا افترقا اجتمعا .وأما قوله : (( ارزقني )) : فهو طلب الرزق ، ولكن ما هو الرزق ؟ هل هو ما يقوم به البدن ، أ, ما يقوم به الدين ؟
الجواب : كلاهما ، يعني أن رزق الله عز وجل ما يقوم به البدن من طعام وشراب ولباس وسكن ، وما يقوم به الدين من علم وإيمان وعمل صالح والإنسان ينبغي له أن يعود نقشع على استحضار هذه المعاني العظيمة حتى يخرج منتفعاً .
فإذا قال : (( ارزقني )) يعني : ارزقني ما به قوام البدن ، وما به قوام الدين . وقوله : (( وعافني )) : إذا كان الإنسان صحيحاً فالظاهر : أن يقول (( عافني )) لأنه دعاء مسنون في هذا المكان دون أن يستحضر شيئاً ، وإن كان مريضاً مرضاً بدنيا ً استحضر أنه يسأل الله أ،يعفيه من هذا المرض البدني ، وإذا كان مريضاً مرضاً قلبياً ، وما أكثر الأمراض القلبية نسأل الله أن يعافينا منها استحضر أن يعافيه الله من هذا المرض القلبي .على كلٍ ينبغي للإنسان إذا سأل الله العافية في هذا المكان ، أو غيره أن يستحضر أن يسأل الله العافية عافية الدن وعافية القلب، ولا حرج أن يقول : عافني في بدني وقلبي حتى يستحضر ؛ لأنه إن لم يقل هذا قد يغفل . قوله: (( اجبرني )) : الجبر : يكون من النقص ، وكل إنسان ناقص مفرط مسرف على نفسه بتجاوز الحد أو القصور عنه ، ويحتاج إلى جبر حتى يعود سليماً بعد كسره من كسر العظام البدنية ، ومن كسر العظام المعنوية ؛ لأن الإنسان يحتاج إلى جبر يجبر له النقص الذي يكون فيه .
فهذه المعاني التي تذكر في الأدعية يغني للإنسان أن يستحضرها . فإن قال قائل : أليس يغني عن ذلك كله أن يقول : (( اللهم ارحمني ))؟ لأن الرحمة عند الإطلاق بها حصول المحبوب وزوال المكروه ؟ .
فالجواب : بلى ، لكن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط ، لكن على حسب ما جاءت به السنة ، وليس البسط بالأدعية المسجوعة التي ليس لها معنى ، أو يكون لها معنى غير صحيح .
ولماذا كان المشروع فيه البسط ؟ .
لأسباب : 1- لأن الدعاء عبادة ،وكلما ازددت من العبادة ازددت خيراً .
2- الدعاء مناجاة لله عز وجل ، وأحب شيء إليك هو الله عز وجل ، ولا شك أن كثرة المناجاة مع الحبيب مما تزيد الحب .
3-أن يستحضر الإنسان ذنوبه ؛ لأن للذنوب أنواعاً فإذا زيد في الدعاء استحضرت ولهذا كان من دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام : (( اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله ، علانيته وسره ، وأوله وآخره )) [ أخرجه مسلم في الصلاة : باب ما يقول في الركوع والسجود : 483 عي أبي هريرة رضي الله عنه ]
فلهذا كان من المشروع أن يزيد الإنسان في الدعاء ولو كان متكرراً ومبسوطاً ، لأن كل مقام له مقال .
الأذكار بين السجدتين
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الجلسة:
1-( أبو داود الترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي) ((اللهم (وفي لفظ: رب)! اغفر لي، وارحمني، [واجبرني]، [وارفعني]، واهدني، [وعافني]، وارزقني)). وتارة يقول:
2- ابن ماجة بسند جيد ((رب! اغفر لي اغفر لي)). وكان يقولهما في ((صلاة الليل)).