وكثير من المؤمنين يثبتون أمام فتن شتى، فإذا جاءوا إلى فتنة المال، وقعوا فيها، ويقول أحد الصحابة: ابتلينا بالضراء، فصبرنا، وابتلينا بالسراء، فلم نصبر.
حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وكذلك رواه الإمام أحمد عن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ.
وإن كان هناك بشر لا يهتز أمام المال غير الأنبياء، فهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لقد شاهدنا كثيرًا من المتقين، وشاهدنا كثيرًا من الزاهدين في الدنيا، وسمعنا عن أمثلة عظيمة، ومواقف مشهودة، لكننا لم نسمع عن رجل اعتاد أن ينفق كل ماله في سبيل الله، لا يُبقي لأهله، ولنفسه شيئًا، ليس مرة أو مرتين يفعلها، ولكنه اعتاد الثبات على ذلك، ونحن تحدثنا من قبل عن إنفاقه رضي الله عنه في الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في فترة مكة، أو المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله لذلك، لكن نذكر هنا طرفًا سريعًا من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة:
- فها هو الصديق بعد أن أنفق ماله كله، يمتلك مقاليد الحكم في المدينة، ويضع يده على بيت المال، وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال المستديم، فيأتي خراجها، وتأتي صدقاتها، ويمتلأ بيت المال، ثم ها هي فارس تفتح، والشام كذلك تفتح، وتأتي الغنائم وفيرة، والكنوز عظيمة، فماذا فعل الصديق رضي الله عنه؟
ما تغير قدر أنملة، وما فتن بالدنيا لحظة، ليس الصديق الذي يتبدل، لقد أعطى الدنيا حجمها، وزهد فيها، وأعطى الآخرة حجمها كذلك فعمل لها، فقد سمع من حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حديثًا وضح فيه حجم الدنيا مقارنة بالآخرة، وهو الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعُهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ. يعني التي تلي الإبهام.
ما غاب عن ذهنه أبدًا هذا المقياس، ومن أجل هذا لم يفتن بالدنيا لحظة، لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا، ومرشده ومرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعها نصب عينيه، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ.
- أصبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة، وعلى يده أبراد (والبُرد هو الثوب المخطط) فكان يحمل هذه الأبراد متجهًا إلى السوق؛ ليتاجر كعادته، حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه عمر بن الخطاب، فسأله: أين تريد؟ قال:إلى السوق. قال عمر: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين. قال: فمن أين أطعم عيالي؟
ولنتأمل، يده على بيت المال بكامله، ويتساءل هذا السؤال! فأشار عليه أن يذهبا إلى أبي عبيدة أمين بيت المال، ليفرض له قوته وقوت عياله، فذهبا إليه، ففرض له، إلى هذه الشفافية في الضمير، والأمانة في اليد، والنقاء في النفس وصل الصديق رضي الله عنه، ينزل إلى السوق، وهو خليفة كي يتاجر حتى يطعم عياله، وطبعًا عف الصديق، فعفت الرعية، لم نسمع عن وزير من وزراء، أو مستشار من مستشاريه هرّب أمواله إلى بنوك فارس والروم.