قد اضطرب المسلمون اضطرابًا شديدًا، حتى ذهل بعضهم فلا يستطيع التفكير، وقعد بعضهم لا يستطيع القيام، وسكت بعضهم لا يستطيع الكلام، وأنكر بعضهم لا يستطيع التصديق، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله مات وأبو بكر بالسُّنْح (يعني بالعالية مسكن زوجته، ميل إلى المسجد النبوي)، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله .
يقول ذلك وهو يعتقد بعدم موته تمام الاعتقاد، حتى إنه يقول في رواية أخرى: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك.
أي لا أعتقد إلا أنه لم يمت فعلاً، ثم قال عمر: وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.
وفي رواية يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله تُوُفِّي، إن رسول الله ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات.
كان هذا موقف عمر ، وما أدراك من هو عمر! يقول رسول الله فيما رواه الترمذي، وهو يتحدث عن أصحابه: أَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ.
هذا هو أثر المصيبة على أشد الصحابة في أمر الله .
ويقول فيما رواه البخاري عن أبي هريرة : لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ.
هذا هو أثر المصيبة على المُحَدَّث في أمة الإسلام.
ظل المسلمون على هذه الحالة يتمنون صدق كلام عمر، حتى جاء الصديق ، ودخل مسرعًا إلى بيت رسول الله ، وبيت ابنته عائشة رضي الله عنها، فوجد رسول الله نائمًا على فراشه، وقد غطوا وجهه، فكشف عن وجهه، وفي لحظة أدرك الحقيقة المرة، لقد مات رسول الله فعلاً، بكى أبو بكر الصديق بكاءً مُرًّا، الرسول كان بالنسبة له كل شيء، لم يكن رسولاً بالنسبة لأبي بكر فقط، ولكنه كان صاحبًا، وموطن سرّ، ومبشرًا، ومطمئنًا، وزوجًا لابنته، ورئيسًا للدولة، وهاديًا لطريقه، ومع ذلك إلا أن الله أنزل على الصّدّيق ثباتًا عجيبًا، ولو لم يكن له من المواقف في الإسلام إلا هذا الموقف لكفَى دليلاً على عظمته، ولكن سبحان الله ما أكثر مواقفه العظيمة!!
لقد أكبَّ أبو بكر الصديق على حبيبه ، فقبَّل جبهته، ثم قال -وهو يضع يديه على صدغي الرسول -: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفياه!!
ثم تماسك قائلاً: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها.
ثم أسرع الصديق خارجًا إلى الناس ليسكن من رَوْعهم، وليثبتهم في مصيبتهم، فوجد عمر يقول ما يقول، ويقسم على أن رسول الله لم يمت، فقال: أيها الحالف على رِسْلِك.
وفي رواية قال له: اجلس يا عمر.
لكن عمر لم يكن يسمع شيئًا، فلقد فقد كل قدرة على التفكير، فتركه أبو بكر ، واتجه إلى الناس يخاطبهم، فأقبل الناس عليه، وتركوا عمر، فخطب فيهم خطبته المشهورة الموفَّقة، التي تعتبر -على قصرها- من أهم الخطب في تاريخ البشرية، فقد ثبت الله بها أمة كادت أن تضل، وأوشكت أن تُفتن، قال الصديق في حزم بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ينبه الصديق بفقه عميق على حقيقة الأمر، ويضعه في حجمه الطبيعي، فبرغم عظم المصيبة إلا أنه يجب ألا تخرجكم عن شعوركم وحكمتكم وإيمانكم.
حقيقة الأمر أن رسول الله بشر، وحقيقة الأمر أن البشر جميعًا يموتون، وحقيقة الأمر أننا ما عبدناه لحظة، ولكننا جميعًا عبدنا رب العالمين I، والله حي لا يموت، فلا داعي للاختلاط، ولا داعي للفتنة، ولا داعي للاضطراب، ما حدث كان أمرًا متوقعًا، وربنا الذي يرى ردّ فعلنا حي لا يموت، ويجزينا على صبرنا، ويعاقبنا على جزعنا.
ثم قرأ الصديق في توفيق عجيب آية من آيات سورة آل عمران، تبصر المسلمين بالحقيقة كاملة، وتعرفهم بما يجب عليهم فيها، قرأ الصديق : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية، حتى تلاها أبو بكر -مع أنها نزلت منذ أكثر من سبع سنوات- فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها.
لقد أدرك الناس ساعتها أن رسول الله قد مات، لقد أخرجت الآية الكريمة المسلمين من أوهام الأحلام إلى حقيقة الموت، يقول عمر بن الخطاب : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعُقِرْت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي قد مات.
ما تحمل عمر العملاق المصيبة، فسقط مغشيًّا عليه، وارتفع البكاء في كل أنحاء المدينة المنورة.
يقول أبو ذؤيب الهذلي رحمه الله -من التابعين كان مسلمًا على عهد النبي ولم يره-: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء، كضجيج الحجيج أهلّوا جميعًا بالإحرام، فقلت: مه؟
فقالوا: قبض رسول الله .
وقامت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله كما روى البخاري عن أنس : يا أبتاهْ، أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه مَنْ جنة الفردوس مأوه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
وأثرت المصيبة تأثيرًا شديدًا على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فكانت تقول كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح: مات رسول الله بين سحري ونحري، وفي دولتي (أي: يومي) لم أظلم فيه أحدًا، فمن سفهي وحداثة سني -كانت في التاسعة عشرة من عمرها- أن رسول الله قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمتُ ألتدم (أضرب صدري) مع النساء، وأضرب وجهي.
لقد كانت مصيبة أخرجت معظم الحكماء عن حكمتهم، لكن الحمد لله الذي مَنَّ على الأمة بأبي بكر الصديق ، فقد ثبت الله الأمة بكاملها بثباته هو