فتنة عظيمة هائلة مروعة، لا نستطيع في هذا المضمار الضيق أن نوفيها حقها، لكن نشير فقط إلى ثبات الصديق رضي الله عنه، هذا الثبات الذي فاق كل تخيل، حتى فاق تخيل الصحابة أنفسهم، والفتنة كانت هائلة، ارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية: مكة، والمدينة، والطائف، وقرية جواثا في منطقة هجر بالبحرين، لا أقول عشرات الآلاف من المرتدين، بل مئات الآلاف، وليس فقط بمنع الزكاة، بل منهم من ارتد كلية عن الإسلام، ومنهم من فتن المسلمين في دينهم وعذبهم وقتلهم، ومنهم من ادعى النبوة،
غلبة عظيمة لأهل الردة، وقلة في المؤمنين، في هذا الموقف الحرج رأى جمهور الصحابة أن اعتزال الفتنة بتركها هو الأولى، قالوا للصديق رضي الله عنه: الزم بيتك، وأغلق عليك بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
يأس كامل في الإصلاح، وإحباط يملأ القلوب، موقف من أصعب مواقف التاريخ قاطبة، لكن الصديق رضي الله عنه كان أعلم الصحابة، وأفقه الصحابة، وأثبت الصحابة، تحول الشيخ الكبير الرحيم المتواضع ضعيف البنية إلى أسد جصور، عظيم الثورة، شديد البأس، عالي الهمة، سريع النهضة، أصر على قتال المرتدين جميعًا وفي وقت متزامن، قال في شأن مانعي الزكاة: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا (الأنثى من ولد الماعز) وفي رواية عقالًا (وهو الحبل الذي يربط به البعير) كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها.
وقال في شأن بقية المرتدين، والذين يبلغون مئات الآلاف: أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي. أي: تقتطع عنقي.
بهذه العزيمة، وهذه العقيدة، ولذا لما رأى الصحابة هذا الإصرار من الصديق رضي الله عنه انشرحت صدورهم لهذا الحق الذي أجراه الله على لسان هذا الرجل، يقول عمر كما جاء في صحيح البخاري: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنه الحق.
وهكذا أخرج الصديق رضي الله عنه الجيوش تلو الجيوش، أحد عشر جيشًا في ملحمة خالدة، تضحيات عظيمة، تعب وجهد، ودم وشهادة، ثم نصر وتمكين وسيادة، وأشرقت الأرض من جديد بنور ربها، وحكمت الجزيرة العربية مرة ثانية بالقرآن، وأعز الله الإسلام وأهله، وأذل الله الشرك وأهله، كل هذا في عام واحد، عام واحد فقط، والحمد لله رب العالمين.