أحبه حبًّا خالصًا خالط لحمه ودماءه وعظامه وروحه حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ من تكوينه، والصحابة جميعًا أحبوا رسول الله حبًّا عظيمًا فريدًا، ولكن ليس كحب أبي بكر الصديق .
هذا الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل والبلد، بل فاق حب الدنيا جميعها.
وحب رسول الله من مكملات الإيمان، فقد روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أنس قال: قال رسول الله : لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وأبو بكر الصديق أشد الناس إيمانًا، فهو إذن أشد الناس حبًّا للرسول ، ففي حديث رسول الله في مسند الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ.
هذا الحب المتناهي، له دليل من كل موقف من مواقف السيرة تقريبًا، ولو تتبعت رحلة الصديق مع رسول الله لرأيت حبًّا قلما تكرر في التاريخ.
هل كان هذا الحب من طرف واحد؟
كلا والله، يقول رسول الله في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة : الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ.
فلأن أبو بكر الصديق أحب رسول الله هذا الحب الذي فاق كل حب، فإن رسول الله قد رفع مكانته في قلبه فوق مكانة غيره.
روى الشيخان عن عمرو بن العاص أن رسول الله بعثه على جيش ذات السلاسل، يقول: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عَائِشَةُ. قلت: من الرجال؟ قال: أَبُوهَا. قلت: ثم من؟ قال: عُمَرُ. فعد رجالاً.
سؤال: هل كان يُرْغِمُ أبو بكر الصديق نفسه على هذا الحب؟ هل كان يشعر بألم في صدره عندما يقدم حب رسول الله على حب ماله أو ولده أو عشيرته أو تجارته أو بلده؟
أبدا والله، لقد انتقل الصديق من مرحلة مجاهدة النفس لفعل الخيرات إلى مرحلة التمتع، والتلذذ بفعل الخيرات، انتقل إلى مرحلة حلاوة الإيمان يذوقها في قلبه وعقله وكل كيانه.
يقول رسول الله في الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس : ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ.
هذا الحب الفريد لرسول الله قاد إلى أمرين عظيمين يفسران كثيرًا من أعمال الصديق الخالدة في التاريخ:
اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله :
اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله دون جدال أو نقاشٍ أو تنطع. ما نهى عنه ينتهي، وما أمر به يأتي منه ما استطاع، ونجد مصداق ذلك في أحداث كثيرة منها:
- عُرِض الإسلام على أبي بكر، وأن يدخل في دين جديد ما سمع به من قبل، وأن يترك دين الآباء والأجداد، وأن يخالف الناس أجمعين، ويتبع رجلاً واحدًا، أمر عجيب لا بد أن يلتفت إليه.
يقول رسول الله : مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ إِلا كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلا أَبَا بَكْرٍ مَا عَتم (كف بعد المضي فيه) عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ. يقين كامل أن هذا الرجل لا يكذب.