بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع الانصار وذهبوا أوسهم وخزرجهم إلى سقيفة بني ساعدة لتجري عملية انتخاب الخليفة، وامتلأت السقيفة بوجوه الأنصار من القبيلتين الكبيرتين.
أين المهاجرون من هذه الأحداث ؟
فعلاً كان المهاجرون منشغلين بالمصاب الفادح، في بيت رسول الله وحوله، وكانت أمامهم قضايا الغسل، والتكفين، ثم الدفن، وكانوا مختلفين في قضية الدفن..
أين يدفن ؟
أفي البقيع؟
أم مع شهداء أحد؟
أم في مكة بلده؟
أم في مكان خاص به؟
حتى جاء أبو بكر الصديق ، وأخبرهم بأنه يجب أن يدفن حيث مات كما أخبره بذلك رسول الله من قبل.
لكن هل كان اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة بهذا العدد الكبير يخفى على المهاجرين؟
لا بالطبع، رأى أحد الرجال وهو من المهاجرين هذا الجمع من الأنصار في السقيفة، فأسرع إلى بيت رسول الله ، وكان بداخله آنذاك أبو بكر، وعمر، وغيرهم أجمعين، نادى الرجل على عمر بن الخطاب وقال: اخرج إليَّ يا ابن الخطاب. قال عمر : إليك عني فإنا عنك مشاغيل. لكن الرجل أصر على عمر، فخرج له، فقال الرجل: إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرًا.
هنا أدرك عمر بن الخطاب خطورة الموقف، فأسرع إلى الصديق أبي بكر، وأخبره بالأمر وقال له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. فانطلق هو وأبو بكر رضي الله عنهما.
وهنا تتضح حكمة هذين الرجلين فعلاً، فلولا الإسراع الآن لتأزم الموقف جدًّا، فلو أحدث الأنصار بيعة لا يرضى عنها المهاجرون، فإما أن يبايعوا على ما لا يرضون، وإما أن يرفضوا البيعة، وفي هذا فساد، فلا بد أن يسرعوا قبل أن يكتمل الأمر، ويتفرق الأنصار من سقيفة بني ساعدة، أسرع الصديق وعمر رضي الله عنهما إلى السقيفة.
وفي الطريق لقيا رجلين صالحيْن من الأنصار القدامى، ممن شهدوا بيعة العقبة الثانية، وشهدوا كل معارك رسول الله عوين بن ساعدة ، ومعن بن عدي ، فلما رأيا أن الصديق وعمر ذاهبان إلى السقيفة نصحوهما بألا يقربا السقيفة، وليقضوا أمرهم -أي المهاجرين- فيما بينهم، ويبدو أنهما خشيا من حدوث فتنة بين المهاجرين والأنصار فأرادا أن يصرفاهما، لكن الصديق وعمر رضي الله عنهما أصرا على الذهاب إلى السقيفة، ثم في الطريق إلى هناك لقيا أبا عبيدة بن الجراح امين الامه كما قال الرسول
، وهو رجل من أعاظم المهاجرين أجمعين، فأخذاه معهما إلى سقيفة بني ساعدة، ومن الواضح أن المهاجرين لا يضمرون في أنفسهم شرًّا، ولا يعدون تدبيرًا ولا مكيدة، كما اتهمهم كثير من المستشرقين والشيعة، وإلا كيف يذهبون ثلاثة فقط، ولا يجمعون المهاجرين لأجل هذا الحدث الهام؟
وفي هذه الأثناء، وقبل وصول المهاجرين إلى السقيفة، كان الأنصار قد خطوا خطوات هامة في عملية اختيار الخليفة، لقد اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم على اختيار الصحابي الجليل سعد بن عبادة زعيمًا للمسلمين، وخليفة لرسول الله ، سعد بن عبادة هو زعيم الخزرج، ومع ذلك أيده كل الأوس، وهذه ولا شك فضيلة إيمانية عالية، فلو نذكر منذ سنوات معدودات، وقبل قدوم الرسول إلى المدينة كانت الحروب على أشدها بين الأوس والخزرج وآخرها يوم بعاث، والذي حدثت فيه مقتلة عظيمة بين الطرفين، أما الآن فقد تغيرت نفوس الأنصار، وتركت حظ نفسها، وما عادت تفكر إلا في مصلحة هذا الدين، ولم يجد الأوس حرجًا في أن يقدموا زعيم الخزرج للخلافة، ووقفوا جميعًا وراءه ولم يطرحوا اسمًا أوسيًّا بديلاً، بل قبلوا به دونما أدنى جدل، إذن الرجل المرشح الأول للخلافة هو: سعد بن عبادة، في نظر الأنصار، وسعد بن عبادة أهل لكل خير، ولو كان الخليفة من الأنصار، فسيكون اختيار سعد بن عبادة اختيارًا موفقًا لا ريب.
اختار الأنصار سعد بن عبادة ، وكان مريضًا ، ويجلس وهو مزمل بثوبه، ولا يكاد يسمع صوته، فأراد أن يتكلم بعد اختياره، فلم يقدر على إسماع القوم جميعًا، فكان يبلغ ابنه بالكلام، ويتحدث ابنه إلى الناس، فقال سعد بن عبادة بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: يا معشر الأنصار.
يقول: لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام، ليست لقبيلة من العرب.
إن محمدًا لبث بضع عشر سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيمًا عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة. وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به، وبرسوله، والمنع له، ولأصحابه والإعزاز له، ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقلهم على عدوه من غيركم.حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داخرًا حتى أغنى الله لرسوله بكم الأرض، ودانت له بأسيافكم العرب.
ثم يختم سعد بن عبادة خطبته بكلمة جميلة فقال: ثم توفَّى الله رسوله ، وهو عنكم راض، وبكم قرير العين.
بعد انتهاء هذه الخطبة الموجزة دخل الصديق أبو بكر ، ومعه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، ورآهم الأنصار، ويبدو أنهم كانوا لا يتوقعون ظهور المهاجرين الآن، فهذا قد يعطل البيعة، نعم، الأنصار استقروا على سعد بن عبادة ، لكنه لم يبايع بعد، والأمر عرضة للنقاش الجديد والجدل، والذين دخلوا من المهاجرين ليسوا رجالاً عاديين، لقد دخل الصديق أبو بكر الوزير الأول لرسول الله ، وثاني اثنين، والصاحب القريب إلى رسول الله ، ومعه عمر بن الخطاب الوزير الثاني لرسول الله ، والملهم المحدث، الفاروق، ومعه أيضًا أمين هذه الأمة أبو عبيدة الجراح، وإن صح القول فهو في مقام الوزير الثالث لرسول الله ؛ لكثرة استشارة الرسول له، والاعتماد عليه في أمور كثيرة..
وهذا مما دعا السيدة عائشة أن تقول كما جاء في صحيح مسلم عندما سئلت: من كان رسول الله مستخلفًا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر. قيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح.
ولقد مات أبو عبيدة في خلافة عمر سنة 18 هجرية، ولا شك أنه كان سيدخله في الستة الذين تركهم عمر لينتخبوا من بينهم خليفة، لو كان حيًّا.
إذن الثلاثة الذين دخلوا على الأنصار هم أصحاب الرأي والمشورة من الصحابة، ولا شك أنهم يمثلون الآن رأي المهاجرين، إذن هنا ستحدث مواجهة، الأنصار يريدون سعد بن عبادة ، والمهاجرون لم يفصحوا بعد عن رأيهم، ولكن لعل لهم رأيًا آخر، هنا حدثت لحظة هدوء وترقب، ترى ماذا سيقول المهاجرون؟
أيقرون بخلافة سعد بن عبادة الأنصاري أم يرشحون خليفة غيره؟
ما حدث في سقيفة بني ساعدة:
جاء في صحيح البخاري ومسلم: يقول عمر: فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة.
وواضح أنهم قد وضعوه في مكان ما في صدر المجلس، فلفت نظر عمر بن الخطاب ، ولعله أدرك أنه قد رشح بالفعل للخلافة.
يقول عمر: قلت: ما له؟ قالوا: يوعك -أي مريض- فلما جلسنا قليلاً قام خطيبهم.
حدثت لحظة من الصمت، ثم أدرك الأنصار أن وجود هؤلاء المهاجرين الثلاثة قد يغير من الأمور، ويحدث ما لا يريدونه، فقام خطيب الأنصار يريد أن ينهي المسألة قبل أن يتكلم المهاجرون، وخطيب الأنصار هذا لا نعرف اسمه، لم يُشر إلى اسمه في الروايات الصحيحة، وإن كان ابن حجر العسقلاني يقول في (فتح الباري) أنه من المحتمل أن يكون ثابت بن قيس ، فهو الذي كان يطلق عليه خطيب الأنصار، والله أعلم بحقيقة الأمر، المهم أنه أراد أن يتكلم كلامًا فصلاً، فقال كما في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب : تشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
أما بعد، فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط. وفي رواية أخرى: رهط منا. وقد دفت دافة من قومكم -أي جاءت مجموعة قليلة من المهاجرين- فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا -أي يستثنونا من الخلافة في بلادنا- وأن يحصنونا من الأمر -أي يخرجونا منه- ثم سكت.
يقول عمر بن الخطاب : فلما سكت -أي الخطيب الأنصاري- أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني -أي هيأت وحسنت- أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك.
أي على مهلك، يعني أسكته، يريد أن يتكلم هو ، ولعله خشي أن يقول عمر بن الخطاب كلامًا شديدًا يعقد الموقف.
يقول عمر : فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر, وعمر وكذا كل الصحابة، كانوا يجلون أبا بكر إجلالاً كبيرًا، وكان إذا تكلم أنصتوا، يقول عمر: فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري، إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها.
كلمة أبي بكر في السقيفة:
لقد قسّم الصديق مقالته إلى ثلاثة أقسام أو ثلاثة مراحل في غاية الحكمة:
أولاً: يقول عمر: فلم يدع الصديق شيئًا أنزل في الأنصار، أو ذكره رسول الله إلا ذكره, يعني ذكر كل المديح الذي جاء في الأنصار ثم قال: لقد علمتم أن رسول الله قال: لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الأَنْصَارُ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ.
وما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، وإنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا.
بهذه المقدمة اللطيفة احتوى الصديق الأنصار، وأشاع جوًّا من السكينة في السقيفة، ووسع في صدر الأنصار، وأعطى لكل ذي قدر قدره، هذا كله دون كذب ولا نفاق، إنما ذكر الحق الذي ذكره الله ورسوله الكريم محمد .
ثانيًا: أما وقد سكنت النفوس، فليذكر الحق الذي لا بد منه، قال الصديق : ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب دارًا وأنسابًا.
والصديق هنا يحاول أن يوضح بهدوء للأنصار أن الحكمة تقتضي أن تكون الخلافة في قريش، لماذا؟
لأن العرب لن تسمع وتطيع إلا لهم، فمنهم النبي ، وهم أوسط العرب نسبًا وأكثر العرب قربًا لقلوب العرب؛ لمكانة مكة الدينية في قلوب الناس، فإذا كان الخليفة من قريش اجتمع العرب عليه مهما اختلفت قبائلهم، وإن كان من غيرهم لم يقبلوا به مهما كان هذا الخليفة رجلاً صالحًا عادلاً تقيًّا، إذن ليست القضية تقليلاً، أو تهميشًا للأنصار، فإنهم فعلاً أهل الفضل، وأنصار الإسلام وليست القضية هي حكم المدينة المنورة فقط، حتى نختار حاكمًا من أهلها عليها، ولكن يجب أن يوسع الأنصار مداركهم؛ ليفقهوا أن هذا الخليفة المنتخب يجب أن يسمع له ويطيع كل العرب، ثم كل الأرض بعد ذلك، وحتى بفرض أن الأنصار اختارت رجلاً هو أتقى وأفضل من رجل المهاجرين، أليس من الحكمة أن يتولى الأصلح الذي يجتمع عليه الناس جميعًا؟
ليس هذا أبدًا من باب القبلية والعنصرية، ولكنه من باب فقه الواقع، والواقع يملي شروطه أن الخليفة يجب أن يكون من قريش، وبالذات في ذلك الزمان، ثم أليس في المهاجرين من يساوي في الفضل أو يفوق سعد بن عبادة وعن الصحابة أجمعين؟
لا شك أن طائفة المهاجرين مليئة بأصحاب الفضل، والرأي، والحكمة، والتقوى.
إذن هذا طرح جديد يقوم به الصديق ، أن يكون الخليفة من قريش، وهو رأي منطقي ومعقول، وله أبعاده العميقة.
ثالثًا: يكمل الصديق كلمته بالمحور الثالث، فألقى جملة رائعة، قال الصديق: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم.
فأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بينهما. فالصديق يقصد أنه ما طرح فكرة أن يكون الخليفة من قريش طمعًا في الخلافة، ومع كونه أفضل المهاجرين، بل أفضل المسلمين بعد رسول الله ، إلا أنه يقدم أحد الرجلين عمر وأبا عبيدة بن الجراح، وذلك زهدًا في الخلافة، وبعدًا عن الدنيا، والصديق لا يقول هذا الكلام من باب السياسة، أو الحكمة، أبدًا، ففي ضوء سيرة الصديق نتبين أنه كان صادقًا تمامًا في عرضه هذا، وأنه ما رغب في إمارة، ولا سعى إليها،
هذا الكلام يخرج فعلاً من قلب الصديق، وعندما تولى إمارة المسلمين ما ظهر عليه ما يشير إلى رغبته فيها، كان عابدًا زاهدًا مجاهدًا، كان كثير التفكر، كثير السهر، كثير العمل، ولم يستمتع بدنيا، ولا بسلطة، ولا بقيادة، إذن فالصديق كان صادقًا في عرضه مبايعة أحد الرجلين عمر، أو أبي عبيدة بن الجراح، فالصديق كما نعلم قد أخرج حظ نفسه من نفسه، وعلى عظم مكانته كان يقدر عمر، ويقدر أبا عبيدة، ويحفظ لهما مكانتهما، لكن على الجانب الآخر كان الصحابة جميعًا يحفظون للصديق مكانته ووضعه.
لما رشح الصديق عمر وأبا عبيدة للخلافة، ماذا كان رد فعلهما؟ يعلق عمر بن الخطاب على كلام الصديق بترشيحه، فيقول: فلم أكره مما قال غيرها، والله لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يكون في ذلك من إثم، أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.
وهكذا كان ابن الخطاب دائمًا يعرف للصديق فضله، ويتمنى صادقًا أن يموت في غير معصية، ولا أن يُقَدّم على الصديق، أيّ مجتمع عظيم هذا الذي يهرب فيه المرشحون للرئاسة بعيدًا عن الرئاسة؟
الآن أصبح هناك رأيان:
- رأي يؤيد مرشحًا من الأنصار، ويقف وراءه معظم رءوس الأنصار في المدينة.
- ورأي يؤيد مرشحًا من قريش ويقف وراءه ثلاثة فقط من المهاجرين. وكل له حجته ومنطقه، وهذا ليس خلافًا بسيطًا عابرًا، بل هو خلاف على ملك ورئاسة وسلطان، فلننظر إلى جيل القدوة كيف يتعامل مع اختلاف وجهات النظر..
رأي الحباب بن المنذر ورد عمر رضي الله عنهما:
قام الحباب بن المنذر ، ولو نتذكر، فالحباب بن المنذر هو الذي أشار على رسول الله بموقع المعركة في بدر، بعد أن نزل الرسول في منزل آخر، فوافقه رسول الله ، ثم أشار عليه ثانية في خيبر بمكان نزل فيه المسلمون كذلك، ولهذا يعرف بين الصحابة بـ (ذي الرأي)، قام الحباب بن المنذر يعرض رأيًا رأى أنه رأي متوسط بين الرأيين، أي كما يقولون حلاًّ يُرضي جميع الأطراف، قال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.
الجذيل: هو عود ينصب للإبل لتحتك به إذا كان بها جرب.
والمحكك أي: كثيرًا ما يحتك به.
والمعنى أنه كثيرًا ما يحتكون به لرأيه ومشورته.
والعذيق: النخلة، تصغير عذق.
المرجب أي: الذي يدعم النخلة إذا ثقل حملها.
والمعنى أنه يُعتمد عليه، ولا نتعجب من أننا لا نعرف معناها، فقد سأل أحد رواة الحديث الإمام مالك عن معناها فقال له: كأنه يقول أنا داهيتها.
وإجمالاً فهو يقصد أنه صاحب الرأي الذي سيأتي بما لا يختلف عليه أحد، فماذا قال؟
قال الحباب: منا أمير، ومنكم أمير.
أي أنه يريد اختيار أميرين، أمير من الأنصار على الأنصار، وأمير من المهاجرين على المهاجرين، أو يختار أميران تكون لهما القيادة على دولة الإسلام سويًّا، وهناك أكثر من ملاحظة على رأي الحباب :
أولاًً: هذا تنازل سريع من الأنصار على موقفهم من اختيار الخليفة، فمنذ قليل كان الخليفة المختار سعد بن عبادة سيكون خليفة على كامل دولة الإسلام، ثم ها هم الأنصار بكلمات قلائل من الصديق يتنازلون عن نصف الخلافة، فهي محاولة صادقة لتقريب وجهات النظر، والالتقاء في منتصف الطريق.
ثانيًا: أنه بعد أن قال: منا أمير، ومنكم أمير.
أضاف قولاً آخر أخرجه ابن سعد بسند صحيح كما قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، أضاف الحباب: فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم.
يقصد أن الأنصار في الغزوات المتتالية قتلوا عددًا كبيرًا من أهل مكة من القريشيين، وسيترك ذلك ثأرًا في قلوب قريش، فإن تولى القرشيون الخلافة انتقموا من الأنصار، وهذا يضيف عاملاً آخر إلى جوار العوامل التي وضعها الأنصار في حساباتهم عند اجتماعهم لاختيار الخليفة من بينهم، كما ذكرنا من قبل.
يعلق الخطابي رحمه الله على ذلك فيقول: إن العرب لم تكن تعرف السيادة على قوم إلا لمن يكون منهم، فالأنصار يستغربون كعامة العرب، أن يكون عليهم أمير من غيرهم.
وهذا صحيح لمن يعرف أحوال العرب قبل الإسلام، فمهما صغرت القبيلة، فإن رئيسها يكون منها، وقَبِل الجميع برسول الله ؛ لأنه كان نبيًّا، وكانت القبلية معوقًا رئيسيًّا لكثير من الناس في دخول الإسلام، نعم جاء الإسلام وألغى القبيلة، لكن هذه كانت قواعد إدارة البلاد منذ سنوات معدودات، ولا ننسى أن رسول الله ما مات إلا منذ سويعات قلائل، إذن الملاحظة الثانية:
أن ما جعل الأنصار يقول هذا القول ليس الحقد على المهاجرين، ولكن لخوفهم من نظام جديد قد تكون فيه خطورة على حياتهم جميعًا.
ثالثًا: بصرف النظر عن الخلفيات وراء كلام الحباب ، أين الحكمة أن يتولى الخلافة رجلان؟ فمن المستحيل أن تدار البلد بخليفتين، بل إن هذا أمرًا منهي عنه في الشرع في منتهى الوضوح وفي منتهى الصرامة، روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله : وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ.
هكذا في منتهى الوضوح، ومن ثم فالحباب بن منذر إما لم يصله هذا الحكم ولا يعرفه، وإما أنه أراد أن ينسحب الأنصار من الخلافة، ولكن بأسلوب متدرج؛ منعًا لإحراج كبيرهم سعد بن عبادة ، لكن هذا لم يكن ليمر دون تعليق من الصحابة فإن كان الحكم قد خفي عن أحدهم، فلا بد أن آخرين قد أدركوا الصواب، قال عمر بن الخطاب : إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد.
فقال خطيب الأنصار، ولعله كما ذكرنا من قبل ثابت بن قيس : إن رسول الله كان إذا استعمل رجلاً منكم، قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك.
أي أن خطيب الأنصار يحاول أن يؤيد رأي الحباب بن المنذر، ولكن بتنازل أكبر، أي أنه يقبل خليفة من المهاجرين مقرونًا معه بمساعد من الأنصار، لكن يبدو أيضًا من كلامه أنه ليست وزارة للخليفة، بل هو أيضًا خليفة، ولكن في درجة لاحقة للخليفة الأول، وهذا أيضًا كما هو واضح ليس بمنطقي.
قام عمر بن الخطاب مرة ثانية وقال: هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم، ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين.
ثم قال: من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه، وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة.
ونلاحظ هنا أن عمر بن الخطاب بدأ يحتد، ومن المؤكد أن صوته قد ارتفع ولو قليلاً، والكلام الذي قاله يحتمل معانٍ كثيرة، فهو يقول أنه لا أحد من العرب يستطيع أن ينازع عشيرة محمد الإمارة، والأنصار من العرب، وهي داخلة في الكلمة العامة التي قالها الفاروق عمر ، وإذا أصرت قد تورط نفسها في هلكة كما قال عمر ، هنا تكلم أحد الأنصار لم تذكر الروايات اسمه كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، ونلاحظ في كلام الأنصاري الأتي تنازلاً جديدًا، قال:
إذن أولاً نختار رجلاً من المهاجرين، وإذا مات اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلاً من المهاجرين، كذلك أبدًا.
ونلاحظ أنه يقدم بيعة المهاجرين، ثم هو يريد أن يدلل على كلامه، ويؤكد فيقول: فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ، أن ينقض عليه الأنصاري، وكذلك الأنصاري إذا زاغ أن ينقض عليه القرشي.
وهذا وإن كان ظاهره أنه سيحل الموقف الآن باختيار خليفة من المهاجرين، إلا أنه سيؤجل الفتنة عدة سنوات أو شهور، ولكنها ستحدث حتمًا، فقد يدخل الشيطان بين الفريقين لتبادل السلطة، والأكثر من ذلك أن العرب مستقبلاً بعد موت الخليفة الأول لن ترضى بالخليفة الأنصاري الجديد، ومن ثم، فهذا الرأي أيضًا لا يقبل.
وقف أيضًا عمر بن الخطاب ، وكان شديدًا في الحق، حريصًا على الوضوح، بعيدًا كل البعد عن تمييع الأمور، أو دفن النار تحت الرماد، قال في قوة وحدّة: لا والله، لا يخالفنا أحد إلا قتلناه.
طبعًا هذه الكلمة شديدة، ومن المؤكد أنها أثارت الأنصار في ساعتها، لكن عمر يريد أن يوضح الأمور على حقيقتها، إن كانت الخلافة فعلاً من حق قريش، فالذي سينازعهم فيها لا بد أن يقتل شرعًا، فإذا كانت العرب جميعًا ستبايع القرشيين، ولن تبايع الأنصار، فالاجتماع على القرشيين واجب، وهنا تكون مطالبة الأنصار بالإمارة مخالفة شرعية، لأنها ستقود إلى الفرقة والفتنة، والفتنة أشد من القتل، لذلك شرع الرسول قتل الخليفة الآخر، إذا بويع للأول واجتمع الناس عليه، وكان مقيمًا لشرع الله غير مبدل ولا محرف.
لكن من المؤكد أن هذه الحدة قد أثارت بعض الأنصار، فالنفس العربية بصفة عامة لا تقبل التهديد، وبالذات لو كانت هذه النفس لفارس، قام فارس الأنصار الحباب بن المنذر وأعاد وكرر رأيه: منا أمير، ومنكم أمير.
وقد أثارته كلمات الفاروق ، ولم يكتف بذلك، بل قال كلمة أحسبها أفلتت منه قال: وإن شئتم كررناها خدعة.
أي أعدنا الحرب من جديد، أمر خطير، وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط.
أبو عبيدة يغيّر خط الحوار في السقيفة:
إذا كان حديث العقل، والحجة، والبرهان يُقَسّي القلوب أحيانًا، فليكن حديث الوجدان والروح، يتكلم الأمين، أمين الأمة، يتكلم أبو عبيدة بن الجراح ، الرجل الرصين، الهادئ، أمين الأمة، قال جملة من سطر واحد، نزلت بالسكينة على السقيفة في لحظة، قال: يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بَدّل وَغيّر.
هكذا هذه الكلمات القليلة زلزلت كيان الأنصار، وهزت مشاعرهم هزًّا عنيفًا، أطلق الأمين أبو عبيدة سهمًا فاستقر في قلوب الأنصار قلبًا قلبًا،
أفاق الأنصار أجمعين، أفاقوا على حقيقتهم العجيبة، أن الله خلقهم ليعطوا ويعطوا ويعطوا، النسمة الرقيقة الحانية التي تأتي بالخير، ولا تأخذ شيئًا، ارتفع بهم أبو عبيدة بجملته الموفقة من مواقع البشر والأرض، إلى مصاف الملائكة والسماء، تذكروا البيعة الخالدة، وتذكروا الهجرة، وتذكروا النصرة، وتذكروا الجهاد، والشهادة، تذكروا إخوانًا قدموا أرواحهم، وسبقوا صادقين، ما بدلوا وما غيروا.
وانهمرت دموع الأنصار تفيض على الحاضرين جميعًا رحمة وأمنًا، وقام بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي مسرعًا ملبيًا لنداء أبي عبيدة، وكان ممن شهد العقبة الثانية، وكان شيخًا كبيرًا، قام فقال: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضاء ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضًا، فإن الله ولي النعمة، وولي المنة علينا بذلك، ألا إن محمدًا من قريش، وقومه أحق به وأولى، ولا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله، ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
وتغير بالكلية خط الحوار في السقيفة، وبدأ الجميع يهدأ نفسًا، وظهر أن حجة المهاجرين أصبحت أعلى، لكن هذه الحجة ما كانت لتقنع الأنصار لولا أن قلوبهم مؤمنة، ولولا أن غايتهم الجنة.
قام أسيد بن حضير زعيم الأوس، ودعا إلى أن يترك الأنصار الأمر ويبايعوا المهاجرين، ولعله أراد أن يقوي حجة المهاجرين فقال: إنه يخشى أن يحدث الخلاف مستقبلاً بين الأوس والخزرج إن تولى أحدهما، ولذلك فهو يؤيد المهاجرين، ولما رأى الصديق أن نفوس الناس قد بدأت تطيب باختيار الخليفة من المهاجرين، أراد أن يضيف حجة تقوي من شأن هذا الاختيار وتزكيه، والحق أن الحجة تدل على ذكاء الصديق، وسعة اطلاعه على كتاب الله ، قال الصديق : إن الله سمانا الصادقين، وسماكم المفلحين.
وذلك في إشارة لقول : {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 8, 9].
ثم انظر إلى الاستنباط، قال: وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا، فقال في سورة التوبة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
ثم استنبط أمرًا آخر من حديث رسول الله ، قال: إن رسول الله أوصى بالأنصار خيرًا، وأوصى أن من تولى أمر المسلمين فعليه أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
وذلك في إشارة واضحة أن الخليفة ليس منهم، إذ كيف يوصيه عليهم إن كان منهم.
وهكذا هدأت النفوس أكثر وازداد توحد المسلمين في رأي واحد، هذا كله، منذ دخول المهاجرين، وحتى هذه اللحظة، في أقل من ساعتين في تخيلي، فإن هذا اللقاء لم يقطع بصلاة، وكل هذه الأمور تمت، وما زالت هناك أمور أخرى ستتم في غضون هذه الفترة القصيرة، فأنعم به من جيل.